النص 1 :
” إن التباعد باعتباره خاصية مميزة للوجود – مع- الغير
، يلزم عنه أن “الموجود - هنا” يجد نفسه داخل وجود مشترك يومي تحت قبضة
الغير . إن الموجود – هنا ، باعتباره وجودا فرديا خاصا ، لا يكون مطابقا
لذاته ،عندما يوجد على نمط الوجود مع الغير، لأن الآخرين أفرغوه من كينونته
الخاصة . فإمكانيات الوجود اليومية للموجود هنا ، توجد تحت رحمة الغير.
فالغير في هذه الحالة ليس أحدا متعينا ، بل على العكس من ذلك ، بإمكان أي
كان أن يمثله ، فما يهم هو هذه الهيمنة الخفية التي يمارسها الغير على
الوجود - هنا عندما يوجد مع الغير . فالذات نفسها عندما تنتمي إلى الغير
تقوي بذلك من سلطته. إن ” الآخرين” ، الذين نسميهم بهذا الاسم لإخفاء أننا
ننتمي إليهم بشكل أساسي ، هم الذين يوجدون منذ الوهلة الأولى ، و في الغالب
، في الحياة المشتركة على نمط ” الموجود - هنا “.
في
استعمالنا لوسائل النقل العمومية ، أو في استفادتنا من الخدمات الإعلامية (
قراءة الصحف مثلا)، نجد أن كل واحد منا يشبه الآخر. فهذا الوجود - المشترك
يذيب كليا الموجود - هنا ، الذي هو وجودي الخاص، في نمط وجود الغير، بحيث
يجعل الآخرين يختفون أكثر فأكثر و يفقدون ما يميزهم و ما ينفردون به . إن
وضعية اللامبالاة و اللاتمييز التي يفرضها الوجود مع الغير، تسمح للضمير
المبني للمجهول ” on” أن يطور خاصيته الديكتاتورية التي تميزه.
إننا
نتسلى ونلهو كما يتسلى ” الناس ” و يلهون ، ونقرأ الكتب و نشاهد الأفلام ،
ونحكم على الأعمال الأدبية و الفنية كما يقرأ الناس و يشاهدون الأفلام و
يحكمون على الأعمال الأدبية ، و ننعزل عن الحشود كما ينعزل الناس عنها
ونعتبر فضيحة ما يعتبره الناس كذلك(…)
يمكن
أن نقول : لقد أريد هذا ، كما يمكن أن نقول لا أحد أراد هذا فيصبح كل واحد
هو آخر، ولا أحد هو هو ، إن المجهول الذي يجيب على سؤال من هو هذا الموجود
- هنا ليس شخصا متعينا ، إنه لا أحد .”
مارتن هايدغر Martin Heidegger : “الوجود والزمن” Etre et Temps ، الترجمة الفرنسية لبويم دي ويلهانس، غاليمار، 1964، ص 158- 160 .
عن مقرر رحاب الفلسفة، 2باك مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007، ص 31.
النص 2:
”
لننظر مثلا إلى الخجل ، إنه ضرب من الشعور، إنه شعور غير مباشر بالذات
كخجل ، وهو بهذا الشكل مثال لما يسميه الألمان بالمعيش ، فهو سهل و ممكن
تأمله . و فضلا عن ذلك فإن تركيبه قصدي ، إنه إدراك خجول لشيء ما ، و هذا
الشيء هو أنا ، إني خجول مما أكونه . فالخجل يحقق إذن علاقة باطنية بين
الأنا و الأنا ، و قد اكتشفت في الخجل مظهرا من وجودي. ومع ذلك فعلى الرغم
من أن بعض الأشكال المركبة و المشتقة من الخجل يمكن أن تظهر على المستوى
التأملي، فإن الخجل ليس أصلا ظاهرة للتأمل . و الحق أنه مهما تكن النتائج
التي يمكن الحصول عليها في الخلوة بواسطة الممارسة الدينية للخجل ، فإن
الخجل في تركيبه الأول هو خجل أمام شخص ما . لقد قمت بحركة غير لائقة ، و
هذه الحركة تلتصق بي ، لا أحكم عليها و لا ألومها ، بل أحياها فقط ، و
أحققها كنمط من أنماط الوجود من أجل الذات .
لكن
ها أنذا أرفع رأسي فجأة ، وكأن هناك أحدا رآني ، و أتحقق من كل ما في
حركتي من سوقية فأخجل . و من المؤكد أن خجلي ليس تأمليا ، لأن حضور الغير
في شعوري.. لا يتوافق مع الموقف التأملي . ففي مجال تأملي الخاص لا أستطيع
أبدا أن أجد سوى الشعور الذي هو شعوري، ولكن الغير هو الوسيط الذي لا غنى
عنه بيني أنا و بين نفسي : فأنا خجول من نفسي من حيث أتبدى للغير.
و
بظهـور الغير ، أصبح في مقدوري أن أصدر حكما على نفسي كما أصدره على موضوع
ما ، لأني أظهر للغير بوصفي موضوعا ، و مـع ذلك فإن هـذا الموضوع المتبدي
للغير ، ليس صورة تافهة في عقل الغير . إن هذه الصورة ستنتسب كلها إلى
الغير، ولا يمكن أن ” تمسني ” . و يمكنني أن أحس بالضيق و الغضب إزاءها ،
كما يحدث أمام صورة لنفسي تضفي علي قبحا..
و
هكذا نجد أن الخجل هو خجل من الذات أمام الغير . فهاتان البنيتان غير
منفصلتين ، و لكن في الوقت نفسه أنا في حاجة إلى الغير لأدرك إدراكا كاملا
كل بنيات وجودي ، ولهذا فإن ما هو من أجل ذاته يحيل على ما هو من أجل
الغير( في نظر الغير).”
جان بول سارتر : ” الوجود والعدم”، باريز، غاليمار، 1957، ص 275-277 .
عن مقرر منار الفلسفة، للسنة الثانية باكلوريا مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007، ص29 .
النص 3:
”
أكيـد أنــنا ندرك فــرح الغيـر من خــلال ابتسامتـه ، كما نــدرك همومـه و
ألمـه من دموعـه ، و خجلـه من احمـرار وجهـه ، ودعاءه من يديه الملتصقين ،
وحبه من نظرته الحنونة ، و غضبه من اصطكاك أسنانه ، و تهديده و رغبته في
الإنتقام من قبضة يده.
أما
إذا قيل لي : إن هذه ليست “إدراكات” لأن الإدراك هو مجموعة من الأحاسيس ، و
إننا لا نحس بالحالة النفسية الداخلية لغيرنا ، و إننا لا ننفعل بما يأتي
من نفسية غيرنا ، فإني سأكتفي بأن أطلب من أصحاب هذا القول أن يتركوا هذه
النظريات المرفوضة ، و أن يلتفتوا إلى الوضعية الفينومينولوجية(…) إني لا
أرى “عيون” الآخر (كموضوع) ، بل إني أراها تراني، وقد أراها تراني بكيفية
تجعلني لا أراها تراني ! فأدرك ، من خلال هذه الطريقة ، أن الآخر “يدعي”
الإحساس بما لا يحس به ، وبأنه يمزق الرابطة التي تربط تعبيره الطبيعي
(الخارجي) بحياته النفسية (الداخلية) (…)
إن
ما ندركه ، منذ الوهلة الأولى ، ليس جسد الغير ، و لا نفسيته ، بل ندرك
الغير بوصفه كلا لا يقبل القسمة ، إذ لا يمكن أن نقسمه إلى قسمين ، أولهما
يدرك داخليا(نفسيا) ، و ثانيهما يدرك خارجيا (جسديا) (…) إن المضمونيــــن ،
الداخـــلي والخــــارجي، يترابطان ترابطا وثيقا بخيط دائم و مستقل عن كل
ملاحظة أو استقراء . فمظاهر هذه الوحدة الجسدية الفردية ، تبقى رغم تنوعها و
خارجيتها( اللون، الشكل، الحركة) تابعة للكل الفردي الحي (…) لهذا السبب ،
يكون من المستحيل تفكيك وحدة ظاهرة التعبير لدى الغير، سواء كان هذا
التعبير ابتسامة ، أو نظرة مهددة أو حامية ، أو حنونة ، إلى وحدات صغرى
لإعادة تشكيلها ، فيما بعد ، للحصول على نفس الظاهرة الكلية التي التقينا
بها في البداية . إن ما يكون ممكنا بالنسبة للعالم الطبيعي الفيزيائي،
ليصبح ، وأشدد على هذا القول ، مستحيلا بالنسبة للظواهر التعبيرية
الإنسانية ، إذ لا يمكنني ، حسب نمط الإدراك الخارجي ، أن أتبنى موقف
الإدراك الخارجي فأقطع الموضوع المدرك إلى مكوناته الصغرى ، غير أني لن
أنجح ، أبدا ، بالرغم من كل التركيبات الممكنة لهذه الأجزاء ، في إعادة
تشكيل الوحدة التعبيرية للابتسامة”، أو “الدعاء”، أو “التهديد”. و لهذا فإن
احمرار وجنتي الغير يتجاوز أن يكون مجرد احمرار وجنتين يختزل في المظهر
الخارجي للإحمرار، فهو لا يتساوى مع إدراكي الداخلي للإحمرار بوصفه “خجلا”
.”
ماكس شيلر : “طبيعة التعاطف و شكله”
النص 4:
”
كيف لا أحس (…) بأن هذه الحميمية مع ذاتي التي تحميني و تحددني ، هي عائق
نهائي أمام كل تواصل مع الغير ؟ فقبل قليل، كنت بالكاد موجودا وسط الآخرين .
و الآن اكتشفت فرحة الإحساس بأنني أحيا ، إلا أنني وحيد في الانتشاء بفرحي
. إن روحي ملك لي فعلا ، غير أنني سجين داخلها ، و لا يمكن للآخرين اختراق
وعيي ، مثلما لا يمكنني فتح أبوابه لهم ، حتى و لو تمنيت ذلك بكل صدق (…)
إن نجاحي الظاهري يخفي هزيمة شاملة : فالتجربة الذاتية وحدها هي الوجود
الحقيقي ، و هي تجربة تظل غير قابلة ، اعتبارا لجوهرها ، لتكون موضوع نقل
أو إخبار . فأنا أعيش وحيدا محاطا بسور، و أشعر بالعزلة أكثر من شعوري
بالوحدة، وعالمي السري سجن منيع.
و
أكتشف ، في نفس الوقت ، أن أبواب عالم الآخرين موصدة في وجهي و عالمهم
منغلق بقدر انغلاق عالمي أمامهم . إن ألم الغير، يكشف لي بمرارة انفصالنا
الجذري عن بعضنا البعض ، انفصالا لا يقبل بتاتا الإختزال . فعندما يتألم
صديقي ، يمكنني ، بكل تأكيد، مساعدته بفعالية ، و مواساته بكلامي ، و
محاولة تعويض الألم الذي يمزقه بلطف . غير أن ألمه يبقى رغم ذلك ، ألما
برانيا بالنسبة لذاتي . فتجربة الألم تظل تجربته الشخصية هو و ليست تجربتي
أنا . إني أتعذب بقدر ما يتعذب ، و ربما أكثر منه ، لكن دائما بشكل مغاير
تماما عنه . فأنا لا أكون أبدا “معه” بشكل كلي (…)
هكذا
هو الإنسان ، سجين في آلامه ، و منعزل في ذاته ووحيد في موته (…) محكوم
عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في التواصل، والتي لن يتخلى عنها أبدا.”
غاستون بيرجي G Berger: “من القريب إلى الشبيه”، حضور الغير، عمل جماعي، 1957، ص 88-89 .