نماذج من أعلام الفلسفة العربية الاسلامية

بعدما تحدثنا في المقال الأخير عن الفلسفة الأسلامية ويمكن مشاهدة المقال السابق من هنا 

سنأتي الأن على الحديث في النقطة الثانية وهي:
نماذج من أعلام الفلسفة العربية الاسلامية

نماذج من أعلام الفلسفة العربية الاسلامية
1.   الكندي:

1.1         نبدة عن حياته:

يعتبره محمد عبد الهادي أبو ريدة أول فلاسفة الإسلام و أول العلماء في ميدان العلوم الإنسانية، وهو من أصل عربي لذلك سموه بفيلسوف العرب كي يميزوه من فلاسفة الإسلام الغير العرب. لم تذكر كتب التأريخ تاريخ ولادته بالضبط و التاريخ المذكور هو تقريبي، فهو ولد حوالي 185 هـ و توفي و مات في أواخر القرن الثالث هجري. وعاش في العصر العباسي و كان عظيم المنزلة عند الخلفاء العباسيين لأنه كان يرضي الحاجات العلمية الفلسفية لملوك ذلك العصر إلى أن عاد سلطان مذهب أهل السنة مع المتوكل، فأصابه ما أصاب أهل النظر العقلي من غضب المتوكل، وقضى بقية حياته في عزلة فلسفية بعيدا عن بلاطات الحكم.
كان الكندي ينتمي لأسرة نبيلة غنية، استفاد من تعليم منظم كما انه تأثر بالجو الثقافي الذي كان يسود في بيوت الولاة.
بالإضافة إلى الحياة الفكرية التي كانت سائدة في البصرة آن ذاك و المناظرات الكلامية التي تزعمها كبار المعتزلة في ذلك الوقت، فانه قد عاش في ذروة حركة الترجمة و نقل النصوص اليونانية إلى العربية.

فلسفته:

ماهي الفلسفة عند الكندي؟
الفلسفة أعلى الصناعات الإنسانية، ولها شرف على جميع العلوم، تستهدف العلم بحقائق الأشياء و إصابة العلم و العمل به.
الفلسفة عنده باختصار هي "علم الحق الذي هو علة كل حق"لهذا تتجه الفلسفة عنده إلى فهم الواحد الحق، وهذا الواحد هو المبدع للكون لا على سبيل الفيض "كما سنرى عند الفارابي" بل الخلق من عدم، خلق الشيء من اللاشيء. و الفيلسوف التام هو المحيط بهذا العلم، بحيث لا يمكنه الإحاطة بعلم الأشياء إلا إذا أحاط بعلم علتها أي الواحد الحق.
موقفه من الفلسفة اليونانية:
يشعر الكندي بواجب شكر المتقدمين عن كشف شيء من الحقيقة ولو كان يسيرا، وما للمتقدمين على المتأخرين من فضل. وقد خصص في رسائله الفلسفية فقرة عنونها ب "واجب شكر السابقين، معرفة الحق أوسع من طاقة الفرد" دافع فيها عن علوم الأوائل حيث قال: " يجب ألا نذم من كنا نرى انه على خطأ صغير، و كذالك بالنسبة لمن كانت منافعهم بادية على أخطائهم، فحتى لو قصروا عن بعض الحق فقد أفادونا من ثمار فكرهم ، ففكرهم هذا هو منهج وآلة مؤدية إلى علم أغفلوه" وهكذا تكون كتب القدامى قد أمدتنا بمقدمات أفادتنا ومهدت سبل الحق .

منهجه في التأليف " تجنب كيد أعداء الفلسفة"
ذكر أراء القدامى الكاملة الصحيحة.
_إكمال ما لم يقولوه وافيا عن طريق الاجتهاد و البحث.
كان الكندي على وعي بما يمكن أن يسببه له أعداء الفلسفة المتوجين بتيجان الحق جورا على حد قوله، لأنهم يمتلكون سلطة معرفية دينية و سياسية يحتكرون الحقيقة وهم في الواقع غرباء عنها_ وسنرى في خاتمة البحث ما يمكن أن يتسببوا فيه من خسائر لأصحاب النظر العقلي_ ويصفهم الكندي  بأعداء الفلسفة، و أهل الغرابة عن الحق، و بأصحاب الفطنة الضيقة عن أساليب الحق، عاجزون عن إدراك  قيمة و جلالة أهل الاجتهاد.

وجوب اقتناء علم الفلسفة:
يؤكد الكندي أن الانفتاح على الفلسفة هو واجب إن رفض أعداؤها أو وفقوا
فهم إما أن يقولوا أن اقتناءها واجب و بالتالي وجب عيهم اقتناءها.
وإما أن يقولوا أن اقتناءها غير واجب، فيحتم عليهم أن يقدموا الدليل على رأيهم، وفي هذا الدليل لا بد لهم أن يلتمسوه عن طريق الفلسفة، و بالتالي فرفض الفلسفة هو في حد ذاته فلسفة.

سبل المعرفة:
يقيم الكندي تمييزا بين الحواس و العقل؛ فيفضل الحقائق التي يتوصل إليها بالعقل و يعتبرها الأقرب إلى الحقيقة و الطبيعة على تلك المحصلة بالحس التي يعدها غير ثابتة، يقول في هذا الصدد:
ما يدركه الإنسان و ما يعرفه نوعين:
"مادي حسي: قريب للإنسان بعيد عن الطبيعة، لان الإنسان يجده بالحس وهذا الإدراك الحسي غير ثابت" وهنا نلاحظ تأثير الأفلاطونية عليه في احتقاره للحواس وعدم الثقة فيها.
عقلي مجرد: قريب من الطبيعة بعيد من الإنسان، قريب من حقيقة الأشياء، أي إدراك العقل للكليات من أنواع الأجناس، هذه الكليات هي المعقولات الثابتة في النفس من غير مثال، كالقضايا البديهية الاضطرارية.

الفارابي:
حياته:
ولد الفارابي252هـ ، 870 مـ في مدينة فاراب التركية، من أب فارسي و أم تركية .
انتقل الفارابي إلى بغداد و درس النحو و تعلم العربية على يد النحوي المعروف بابن سراج.
لقد أعجب بأرسطو فشرح كتب المنطق شرحا منظما كاشفا غموضها و قربها من العرب، حتى سمي بالمعلم الأول.
وله عدة نظريات حول الله و العالم، حول النفس الإنسانية معرفتها الحسية و العقلية، السياسة و المدينة الفاضلة، و نظرية النبوة
و سنتطرق لنظريته حول الله و العالم كنموذج

نظريته حول الله و العالم (نموذجا)
في هذه النظرية يقسم الفارابي الموجودات لقسمين:

1. ممكنة الوجود: لا تخرج للوجود إلا بعلة هذه العلل لا تتسلسل إلى مالا نهاية بل تصل في الأخير إلى موجود واجب الوجود بذاته و هذه الموجودات الممكنة الوجود هي موجودات العالم

2. واجب الوجود: لا علة لوجوده ولا سبب له وهو بذاته كمال أسمى. وهذا الواجب الوجود هو الله وهو سبب وجود الأشياء الأخرى.

بريء من النقص، ذو كمال أعلى، وجوده أقدم الوجود، وأفضل الوجود، موجود بالفعل لا بالقوة، موجود بلا مادة ولا صورة.
هذا التعريف للذات الإلهية قريب من التعريف الذي أعطاه المسعودي في مروج الذهب " الله عز وجل لا كالأشياء، وانه ليس بجسم ولا عرض ولا عنصر ولا جزء ولا جوهر بل هو الخالق للجسم و العرض و الجزء و الجوهر، وان شيئا من الحواس يدركه في الدنيا ولا في الآخرة، وانه لا يحصره المكان، ولا تحتويه الأقطار بل هو الذي يزل ولا زمان ولا مكان ولا حد وانه الخالق للأشياء المبدع لها لا من شيء و انه القديم وما سواه محدث"   
              
نظرية الفيض:

وتعني كيف صدر هذا العالم عن السبب الأول، وهي نظرية تجد جذورها في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة؛ فحواها أن الله يعقل ذاته، وعقله لذاته يصدر عنه هذا العالم."
الغرض من هذه النظرية تعليل صدور الكثرة الوحدة.
إن في نظرية الفارابي هذه حول العالم محاولة للجمع بين رأي أرسطو و العقيدة الدينية.
فأرسطو قال بقدم العالم و العقيدة قالت بخلقة.
حدود هذه النظرية تتجلى في عدم تقديم تفسير واضح لكيفية تولد هذه المادة من العقول.

ابن رشد

حياته:

ولد في قرطبة سنة 520 هـ 1126 م  من أسرة أندلسية عريقة معروفة بالعلم و الفقه و القضاء.
معروف أن ابن رشد هو من شراح أرسطو، إلا انه لم يكن أول الشراح، لكن طريقته في الشرح تمتاز عن طريقة الشراح الآخرين وكانت له القدرة على تنقيح الأرسطية من شوائب الأفلاطونية المحدثة، ومتى علمنا أن ابن رشد لم يقرأ أرسطو مباشرة لجهله باليونانية، بل قرأه في ترجماته العربية، فقد كابد مشقة تنقية الفلسفة الأرسطية من هذه الشوائب.

فلسفته:          
بماذا تتميز فلسفة ابن رشد؟
ابن رشد لم يدافع عن الفلسفة بالفلسفة بل دافع عنها بالفقه، فقد واجه الغزالي من داخل الشرع و بالاستناد إلى أصوله.
انتباهه إلى علاقة الدين بالمجتمع، وفرق بين الجمهور و العلماء، وقال بان إفشاء التأويل للجمهور هو سبب الفتن التي تخبط فيها المجتمع الإسلامي فالجمهور يجب أن لا يتجاوز ظاهر النص
الفلسفة بين الحكمة و الشريعة:
هل النظر في الفلسفة مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به على جهة الندب أو الوجود؟
يعرف ابن رشد في فصل المقال فعل التفلسف بأنه ليس أكثر من التفكر في الموجودات من حيث هي دالة على الصانع الذي صنعها وكلما كانت المعرفة بصنعتها تامة كانت المعرفة بالصانع أتم.
وقد استشهد ابن رشد بآيات من القران الكريم ؛ كقوله تعالى:" واعتبروا يا أولو الإبصار" الحشر2
إذن فالشرع قد قرر وجوب النظر العقلي في الموجودات واعتبارها، ومعنى الاعتبار هنا هو استنباط المجهول من المعلوم بالقياس، والقياس الذي دعا إليه الشرع هو البرهان وهو أتم أنواع القياس، ولا يمكن للمرء أن يستعمل هذا النوع من القياس إلا إذا كان عارفا بباقي  أنواع القياسات.
لن نخوض في تفصيل أنواع القياسات لان ما يهمنا هنا هو انه لا يمكن التفكر في الموجودات إلا إذا تمكن الناظر من ناصية المنطق. و أن نبين أن ابن رشد لم يكن يرى أن هناك أدنى تعارض بين الفلسفة و الشريعة.
وقد جاء كتابه "فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة و الشريعة من اتصال" على شكل فقرات يرد في كل واحدة منها على قضية من القضايا التي طرحها الرافضون لدخول الفلسفة إلى الحظيرة الإسلامية، فبعد أن عرف بماهية التفلسف، وبين أن الاعتبار لا يكون إلا بالقياس، يرد على من يقول أن القياس بدعة نظرا لأنه لم يكن في الصدر الأول، فيقول أن القياس الفقهي بناءا على هذه القاعدة بدعة أيضا لأنه لم يظهر في الصدر الأول، وبالتالي فإنه واجب بالشرع استخدام القياس العقلي تماما كما يستخدم القياس الفقهي.
وجوب الاستفادة من علوم الاوائل:
القضية الأخرى التي يتناولها ابن رشد هي وجوب الاستفادة من علوم الأوائل وكتبهم، سواء أكانوا مشاركين لنا في الملة أو غير مشاركين، وهنا يضرب ابن رشد المثال بآلة التذكية، فالمهم هو أن تكون صالحة و تتوفر فيها الشروط؛ أن تكون حادة، غير نجسة...
كذلك هو الأمر بالنسبة لكتب القدماء فإذا كان ما قالوه صوابا قبلناه ومنهم وإلا نبهنا عليه.
يفصل ابن رشد القول أيضا في الأخطاء التي قد تعترض الناظر إلى الفلسفة وما يترتب عنها من تشويه لمصداقية الفلسفة يقول بان الخطأ الذي يعترضها لا يكون من ذاتها بل بالعرض الذي ألحقه الناظر إليها، إما لسوء فطرته أو انه لم يراعي الترتيب اللازم في تعلم الفلسفة وهو البدء بالرياضيات ثم المنطق ثم الطبيعيات وأخيرا الإلهيات. و البدء بالإلهيات يقود دائما إلى الزلل.
وبالتالي فإنه إذا اخطأ الناظر في الفلسفة لا يجوز منعها عن البقية التي تتوفر فيها شروط النظر" مثل من منع العطشى من شرب الماء البارد العذب حتى ماتوا من العطش، لان قوما شرقوا به فماتوا"

طرق التصديق:

يقسم ابن رشد طرق التصديق إلى ثلاث حسب طبائع الناس
فهناك من يصدق بالبرهان، وليس كل الناس مؤهلون للتصديق بالبرهان لما في هذا القياس من عسر و صعوبة في امتلاكه.
 وهناك من يصدق بالأقاويل الجدلية، ومن يصدق بالخطابة.
ولما كان المقصود من الشرع هو تعليم الجميع كان لا بد له من أن يحيط بكل أنواع التصديق وان يستعمل الطرق الأكثر شيوعا بين الناس و ألا يغفل الخاصة، وعلى هذه الخاصة من جهتها ألا  تصرح بالتأويل للعامة لأنهم غير مؤهلين لهذا النوع من التصديق نظرا لصعوبته. "كما أن التأويل فيه نوع من إبطال الظاهر و إثبات المؤَول، فإذا بطل الظاهر عند من هو أهل للظاهر ولم يثبت المؤول عنده، أداه ذالك إلى الكفر"
إفشاء التأويل كان سببا في نشوء الفرق الكلامية التي كفرت بعضها بعضان كالمعتزلة و الأشاعرة، فكانوا اعقد من أن تفهمهم العامة، وقاصرين من حيث احترامهم لشروط البرهان بالنسبة للخاصة.

يختم ابن رشد كتابه بالتحصر على ما آلت إليه الفلسفة من تشويه بسبب من يدعون الحكمة، ويتهم الفرق الكلامية بأنها كانت السبب وراء هذا التشويه.

وفي الأخير يمكن القول على إن العلاقة التي تربط بين الفيلسوف و محيطه غالبا ما تكون متوترة قلقه، فقد يكتفي الناس بتجاهلهم أو السخرية منهم أو القول أن لغتهم غير مفهومة غامضة.وقد يبلغ هذا التوتر حد الاضطهاد من نفي و تشريد وحكم بالصمت أو القتل أو الحرق...
إن موقفهم هذا موقف مأساوي فقد كان لنفوذ الفقهاء سلطة تفوق سلطة رجال السياسة، وكانوا يحرضون الشعوب على الحاكم الذي يشجع انتشار هذه العلوم فقد اضطروا غالبا إلى إحراق كتب الفلاسفة.
فإذا أخدنا ابن رشد نموذجا فقد تكالب عليه رجال الدين و الفقهاء و ضغطوا بسلطتهم الدينية و نفوذهم الاجتماعي على الأمير المنصور لنفي ابن رشد وفي سنة563 كانت النكبة و لا يزال العرب يتحصرون على كتبه المحروقة إلى اليوم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2012 © www.th3philo.comمدونة عالم الفلسفة

سياسة الخصوصية - Privacy Policy