الحجاج في الدرس الفلسفي


من المعروف أن التفكيرالفلسفي هو تفكير حجاجي بامتياز. ولذلك يستخدم الفلاسفة أساليب حجاجية لا حصر لها؛ وهي إما أساليب استدلالية كالاستدلال الاستقرائي أو الاستنباطي أوالاستدلال بالمماثلة أو الاستدلال بالخلف… أو بلاغية كالاستعارة أو التشبيه أو المثال… أو واقعية مثل الحجة بالسلطة أو الاستشهاد بوقائع اجتماعية أو تاريخية…
وعلى العموم فالأساليب الحجاجية في الفلسفة، بما فيها أسلوب المثال، ليست براهينا قطعية كما هو الحال في المنطق أو الرياضيات بل هي حجج نسبية واحتمالية، وتتم داخل اللغة الطبيعية كما تستهدف التأثير في القارئ واستمالته. ولذلك نسجل هنا اختلاف الحجاج عن البرهان؛ ذلك أن الخطاب الفلسفي هو خطاب حجاجي بالدرجة الأولى وليس برهانيا بالمعنى الدقيق.ولذلك يجب التمييز بين الحجاج argumentation والبرهان demonstration وعدم الخلط بينهما.

إن البرهان ذو طبيعة صورية ولاشخصية، كما أنه يستخدم في اللغة الرمزية ويقبل إما الصواب أو الخطأ، في حين نجد أن الحجاج يستخدم من خلال اللغة الطبيعية ويستهدف الإقناع الشخصي مما يمنحه طابعا احتماليا ونسبيا.

والحجاج الفلسفي عموما هو سلسلة من الحجج المرتبة وفق استراتيجية معينة من قبل الفيلسوف، من أجل الإقناع بفكرة ما أو دحضها. والمثال شأنه شأن المقارنة أو الاستعارة أو التشبيه أو التفسير أو الاستنتاج أو الاستقراء أو الحجة بالسلطة… هو نوع من الحجج المستخدمة في الحجاج الفلسفي.

والمثال هو نوع من الحجج التي تستخدم في الحجاج الفلسفي. صحيح أنه ليس من الحجج الاستدلالية ولكنه من نوع الحجج البلاغية؛ وسواء تعلق الأمر بالحجج الاستدلالية أو البلاغية فهي ليست من الحجج العقلية البرهانية القطعية بل هي ذات طابع احتمالي ويمكن دحضها و الكشف عن التناقض الكامن فيها.
باختصار إن الفلسفة تعتمد الحجاج وليس البرهان بمعناه المنطقي والرياضي. وجميع الحجج الموظفة في النصوص الفلسفية هي ذات طابع حجاجي احتمالي وليست برهانية قطعية.
إن البرهان يدل على عملية عقلية تصوغ حقيقة قضية ما بشكل استنباطي(الجبر و الهندسة) يسمح لنا باستخلاص قضية من قضايا أخرى بديهية، أما الحجاج فهو عبارة عن مجموع الإجراءات الخطابة التي توضع من أجل دحض قضية ما أو جعلها مقبولة لدي المخاطب. فالحجاج يسعى إلى كسب تعاطف المخاطبين، في حين أن البرهان يحمل في ذاته البداهة و الضرورة، هو الصواب و الخطأ. إن دراسة الحجاج تهتم أساسا بتحليل التقنيات التي تسمح بخلق موافقة و تنمية قبول أو اعتقاد لدى المخاطب بدعوى ما نعرضه عليه، و هذا ما يجعل الحجاج في العمق و الأساس عن البرهنة. فهذه الأخيرة هي استنباط يتم بموجب استخلاص نتائج انطلاقا من مسلمات معينة بكيفية منطقية و حسابية، بخلاف الحجاج الذي يسعى فقط إلى الإقناع أو الانتصار لقضية ما و جعلها مقبولة و ذلك ضمن سياق سوسيو نفسي معين.
وهناك مجموعة من المستويات التي يختلف فيها الحجاج عن البرهان،نذكر منها ما يلي:
أ- الأوليات في البرهان الرياضي تكون بديهية و غير قابلة للنقاش، في حين أن المقدمات التي ينطلق منها الحجاج لا تكون بالضرورة بديهية بل فقط مقبولة و مشتركة بين أفراد المناقشة.
ب- في البرهان نعتمد على الأدلة العقلية و على العلاقات المنطقية الصارمة التي لا تهتم بالذوات المتلقية، في حين يأخذ الحجاج الذات المتلقية بعين الاعتبار بحيث يسعى لجعلها تتقبل عاطفيا ما نقوله اعتمادا على معطيات بلاغية تروم التأثير في أحاسيس المخاطب و استدراجه للاعتقاد بصواب ما ندعيه من قضايا.
ج- يتأرجح البرهان بين الصواب و الخطأ، فتكون قيمته في ذاته و في تماسك عناصره الداخلية، بينما نجد الحجاج يسعى إلى التأثير الخارجي عبر عمليتي التبرير و الإقناع، لذلك فقيمته لا تكمن بالأساس فيما إذا كان صحيحا أو خاطئا و إنما في قوة أو ضعف فاعليته التأثيرية.


هكذا نخلص إلى أن الحجاج يتحدد، على العكس من البرهان، كمجموعة من الأساليب الخطابية التي تعمل على جعل أطروحة ما مقبولة حيث تهدف إلى إحراز إجماع العقول التي تتوجه إليها. و في الوقت الذي نجد البرهان يحمل في ذاته البداهة و الضرورة، نجد أن الحجاج يتحرك داخل حقل الاحتمال و يكون دوما موجها إلى جمهور. فمن الواضح أن هناك اختلافا بين الحجاج و البرهان سواء في مستوى المنطلقات أو التقنيات المعتمدة، أو في مستوى الأهداف المتوخاة. و بناءا على هذا التمييز يمكن التأكيد على أن خطاب الفلسفة حجاجي و ليس برهانيا – رغم ذهاب الكثير من الفلاسفة القدماء إلى اعتبار القول الفلسفي قولا برهانيا - ذلك أن الفلسفة لا تقوم على قضايا صورية كما هو الشأن بالنسبة للمنطق و الرياضيات.

بأي معنى يمكن الحديث عن ضرورة الحجاج في تدريس الفلسفة ؟

إن إجابتنا عن هذا التساؤل تنطلق من نقطة جوهرية بالنسبة إلينا،وهي أن الحجاج خاصية أساسية من خصائص التفكير الفلسفي، وأسلوب رئيسي في تبليغ القول الفلسفي.
ومادام طموحنا هو جعل الدرس الفلسفي مطابقا في روحه للخطاب الفلسفي نفسه، فإن الأمر يقتضي منا استحضارا قويا للحجاج كأسلوب في التدريس الفلسفي، وبحثا جادا عن الأشكال والإجراءات العملية التي من شأنها تدعيم هذا الحضور وترسيخه في العملية التعليمية التعلمية الخاصة بدرس الفلسفة في الثانوي التأهيلي.
هكذا فضرورة الحجاج في تدريس الفلسفة هي ضرورة “أنطلوجية” و “ماهوية”؛ إذا فهمنا من ذلك أن درس الفلسفة يكتسب وجوده الحقيقي، ويستمد ماهيته وطريقة اشتغاله، من الأساليب المميزة لإنتاجات الفلاسفة أنفسهم، وفي مقدمتها طبعا الأسلوب البرهاني الحجاجي، هذا الأسلوب الذي يجسد – بجانب الأساليب الأخرى – فعل التفكير الفلسفي الذي نتوخى إكسابه للمتعلم بأن نعمل على تنمية القدرات العقلية لديه وتدريبه على مختلف المهارات التي يستوجبها التعلم الفلسفي.
إن ضرورة الحجاج في الدرس الفلسفي نابعة أيضا من القناعة التي أصبحت راسخة لدى مختلف المهتمين بمجال تدريس الفلسفة، وهي ضرورة نقل تعليم الفلسفة من التعليم الإخباري إلى التعليم البرهاني الحجاجي الذي يسمح وحده بتعليم الفلسفة وفقا لروح التفكير الفلسفي نفسها. فليس الهدف في الدرس الفلسفي، كدرس حجاجي، تعليم الأفكار بل تعليم التفكير؛ فليس المهم هو إخبار المتعلم بأن هذا الفيلسوف يقول بهذه الفكرة أو تلك، بل الأهم هو جعل المتعلم يدرك الكيفية أو الطريقة التي نهجها الفيلسوف للتوصل إلى تلك الفكرة، وهو الأمر الذي يستدعي بالضرورة توضيح أسلوب التفكير لدى الفيلسوف والعمل على ترسيخه لدى المتعلم لكي يتعلم بدوره كيف ينتج أفكارا ويستخدمها لصالحه الخاص بدلا من استهلاك أفكار الآخرين فحسب.
وإذا كانت السلطة الوحيدة في الفكر الفلسفي هي سلطة العقل و “الحجة العقلية”، فإن الحجاج كأسلوب عقلي يفرض ضرورته في أي تعليم فلسفي جدير بهذا الاسم.
إن استحضار الحجاج في تدريس الفلسفة يشكل مناسبة لتشغيل ذهن المتعلم، ودخوله في علاقة مباشرة مع الآليات والتقنيات التي يشتغل وفقها العقل الفلسفي ويحلل بمقتضاها مختلف القضايا الإنسانية المطروحة أمامه. والهدف من ذلك هو جعل المتعلم يكتسب تلك الآليات التفكيرية وممارستها لصالحه الخاص، أي بالتعامل معها كأدوات عقلية من شأنها إنتاج أفكار متنوعة وفي مقامات متعددة.
وينبغي أن نشير في الأخير، إلى أن النقل الديداكتيكي لآليات التفكير الحجاجي من مستوى الخطاب الفلسفي إلى مستوى ممارسة المدرس في أفق ترسيخها لدى المتعلم، هو أمر يقتضي الاعتماد على إجراءات عملية وانتهاج طرق ووسائل في التدريس، ومن أهمها النصوص والتمارين الفلسفية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2012 © www.th3philo.comمدونة عالم الفلسفة

سياسة الخصوصية - Privacy Policy