أهم المذاهب والمدارس في الفلسفة اليونانية 4

    أهم المذاهب والمدارس في الفلسفة اليونانية

المرحلة ما بعد السقراطية(الذبول)

- الإهتمام بالأخلاق

في هذه المرحلة، التي يسميها المِرخون بالهلنستية، انتصر الإسكندر على الفرس وتمكن من ربط الشرق، بما فيه مصر و سورية حتى الهند بالحضارة الإغريقية، فولد مجتمع دولي جديد لعبت فيه اللغة والثقافة الإغريقيتان دورا مهيمنا، غير أنه بعد وفاة الإسكندر انتقلت الهيمنة السياسية والعسكرية إلى يد روما، وهو ما جعل الثقافة اللاتينية تتوغل عميقا داخا آسيا وتمتد غربا حتى إسبانيا، فأصبحت الثقافة اليونانية ملكا مشتركا بين جميع بلدان البحر الأبيض، فقد امتدت إلى مصر وسورية في الشرق، و روما واسبانيا في الغرب. وهكذ امتزجت الثقافة الإغريقية بالثقافة الشرقية، حيث أخذت الأولى من روحانية الشرق وعلمه، وأخذت الثانية من فلسفة الإغريق وعلومهم، وهو ما أحدث تغيرات عميقة في المجال الفكري حيث ساد الطابع التأملي للفلسفة اليونانية القديمة.
في هذه المرحلة اتجهت الفلسفة أكثر فأكثر نحو السلام و صفاء الحياة، فلم تعد قيمة الفكر الفلسفي بذاته بل بقدرته على جعل الإنسان يتحرر من قلق الموت والتشاؤم، بهذا أصبحت الأخلاق المشروع الفلسفي الأكثر أهمية في المجتمع الجديد. وفي هذا العصر برزت ثلاث مدارس رئيسية هي الأبيقورية والرواقية والشكية، وسنتناول الأبيقورية نموذجا.

المدرسة الأبيقورية:

أسسها أبيقور (341-270)، اعتبر الأخلاق محور الفلسفة وغايتها، فقد عرف الفلسفة بأنها "الحكمة العملية في توفير السعادة بالأدلة والأفكار"، فالأخلاق تهدف إلى السعادة، والسعادة تقوم في الشعور باللذة، واللذة خير و كل ما يِؤدي إليها خير أيضا، و الألم شر وكذلك ما يؤدي إليه، ولتحصيل السعادة لا بد أولا من إزالة جميع العوائق التي تعترض طريقها كالخوف من تدخل الآلهة في حياة البشر والجزع من الموت وتهيب الحياة الأخروية، فهذه المخاوف كلها باطلة، لهذا نجده يوجه فلسفته الأخلاقية ضد الأوهام والخرافات الدينية التي يرى فيها امتهانا للكرامات الإنسانية،والتحرر من هذه المخاوف التي تسترق الروح يفتح الطريق إلى السعادة. وكان هذا هو هدفه من العلم الطبيعي لهذا نجده يسخر العلوم الأخرى لخدمة الأخلاق، فالعلم الطبيعي مثلا هو مجموعة من التفسيرات القابلة للتغيير، غرضها تخليص البشر من الخوف من الظواهر الجوية والموت، كأن تكون علة الكسوف مثلا هي توسط القمر، أو توسط جسم غير منظور وقد تكون انطفاء الشمس وقتيا، و أي واحد من هذه التفسيرات يكفي لتبديد الخوف من الكسوف،وهذا هو بيت القصيد، فيتبين لنا من ذلك كيف أن العلم الطبيعي ليس مطلوبا لذاته بل لعلم الأخلاق، ومن واجبه طرد القلق والخوف من العقل ودليله على ذلك هو إن كان الموت موجودا فإننا آنذاك لا نوجد، وإن كنا موجودين لا يكون الموت موجودا. فإذا كان الموت هو انعدام الإحساس فإنه لا يؤلم، فالذي يؤلم هو توقع الموت، لذلك لا ينبغي الهروب من الحياة باسم الخوف من الموت.
كل آراء أبيقور تصب في منحى الاهتمام بالإنسان فحتى نظرته للعالم تهدف لخدمة السعادة الإنسانية. فقد رأى العالم مكونا من ذرات، وأيضا من خلاء تتحرك فيه هذه الذرات بدون علة تحكم هذه الحركة، وجعل من الثقل علة الحركة، وعلة الثقل تجعل حركة الذرات مستقيمة تتجه من أعلى إلى أسفل، غير أنها حين تسقط تنحرف كي تصطدم فتلتقي فيما بينها لتتشكل منها المركبات المادية. و يعتبر هذا الإنحراف نوعا من الإرادة في حركة الذرات، وليست إرادة الإنسان إلا هذا الإنحراف عن العلة. إذن الإرادة والحرية الإنسانية هي انحراف حاصل في هذه الذرات باعتبار أن جسم الإنسان مركب من ذرات ونفسه أيضا عبارة عن جسم يتألف من هذه الذرات التي تتناثر بعد الموت. ليكون الإنسان بذلك كائنا ضمن الطبيعة ويتميز في الوقت نفسه بالحرية و الإرادة، وهي حرية لا تخرج من الضرورة.
و محور الأخلاق الأبيقورية هو اللذة، ويرى أبيقور أن الحكيم هو من يفرق بين ثلاث أنواع من اللذات: - لذات طبيعية وضرورية للحياة(الطعام والشراب)، لذات طبيعية ولكن غير ضرورية للحياة(الأغذية المترفة)،  لذات غير طبيعية وغير ضرورية(المال والكرامات الإجتماعية)، و هو يصغي إلى الطائفة الأولى لأنها أبسط النزعات و ألزمها، تقوم بذاتها وتقوم النزعات الأخرى عليها كما أن إرضاءها سهل ميسور، وهكذا يعيش حياة راضية مطمئنة لا تشوبها حسرة أو هم وهي سعادة الفيلسوف الحقيقية.
بهذا فطلب اللذة عنده هو طلب المنفعة، يربط اللذة بالألم، على اعتبار أنه ينبغي على الإنسان أن يتحمل الألم إذا كانت نتيجته لذة أكبر، وعليه أن يتجنب الألم الذي لا يؤدي إلى مثل هذه اللذة، وعليه تجنب اللذة التي تؤدي إلى الألم لذلك لا ينبغي الإسراف في طلبها.

الرواقية:

قامت الفلسفة الرواقية على حب الحكمة و مزاولتها، و الحكمة في نظرها هي العلم الذي يهتم بالأشياء الإلهية و الإنسانية أي جميع الكائنات و الموجودات.
و يمتاز المذهب الرواقي بثلاث مسائل هي: أولا أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة العملية، و ثانيا أن الفلسفة العملية هي التي تقوم على العمل المطابق للعقل، و ثالثا أن العمل المطابق للعقل هو الذي يجري بمقتضى قوانين الطبيعة. فالفلسفة في نظر الرواقيين هي أن يفعل الإنسان وفقا لقوانين الطبيعة. والحكيم أو الإنسان الكامل هو الذي يعلم أن كل شيء في الطبيعة إنما يقع وفق العقل الكلي أو الإله أو القدر الإلهي، و يقبل بمفاعيل هذا القدر طوعا، ليكون القدر كما يراه الرواقيون هو العقل الكلي الذي بموجبه وقعت الأحداث الماضية و تقع الأحداث الحاضرة و ستقع الأحداث المستقبلية، و هو العلة الوحيدة التي هي في الوقت نفسه الرابطة بين العلل و قانون سرمدي كامل و من هنا كان يستحيل على الموجودات العاقلة أن تؤثر في سيره أو تغيره أو تمسه بأي شكل من الأشكال.
و اعتقد الرواقيون أيضا أن كل البشر يشكلون جزءا من العقل الكوني وأن كل فرد هو عالم مصغر يشكل انعكاسا للعالم الأكبر الذي هو الكون مما يسمح بإقامة قانون يصلح لكل الناس هو القانون الطبيعي المبني على المبني على العقل الكوني للإنسان و للكون الذي لا يتغير بحسب الزمان والمكان. ويرى جورج طرابيشي أن هذا العقل الكوني هو الله عند الرواقيين هو محدث الأشياء وخالق العالم.
وفهم الرواقيون صلة هذا الإله بالإنسان وصلته بالعالم فهما جديدا، فهو لا يعود ذلك المتوحد الغريب عن العالم الذي يجذبه غليه بسحر جماله، و إنما هو صانع العالم بالذات، و في عقله صمم خطته، لهذا لا تتجلى فضيلة الحكيم إلا بقبول الإنسان ذلك الصنيع الإلهي و المشاركة في هذا الصنيع بما يِؤتى للإنسان فهمه.

الشكاك:

يمكن تعريف الشكية بأنها فن التصدي بكل الطرق الممكنة للظواهر و المفاهيم المحتمل الوصول بشأنها إلى أقوال متعادلة، وتدعوا إلى تعليق الحكم وتحقيق الطمأنينة . لهذا نجد بيرون في فلسفته الشكية ينطلق من الربط بين تعليق الحكم والطمأنينة. تفسير هذا هو أن الإلحاح على معرفة الأشياء و تقييمها هو السبب في اضطراب وقلق النفس، وكلما علقنا الحكم و قمنا بنوع من اللامبالاة أدى بنا ذلك إلى الإطمئنان.
و تذهب المدرسة الشكية إلى أن التفكير في الطبيعة أو الإعتقاد الدغمائي إما في خيراتها أو مساوئها يجعل الإنسان مظطربا وقلقا، لأن الآراء تتضارب حول طبيعة الأشياء بشكل تتساوى فيه الأقوال سلبا و إيجابا و هذا سبب تعليقها للحكم. و يقر الشكاكون أنهم يحسون بالظواهر لكنهم يمتنعون عن الحكم عليها لأن الحقيقة لا يمكن معرفتها ويمكن لكل الأضداد أن تنطبق على حقيقة الشيء الواحد، فالأشياء ليست جميلة في ذاتها ولا قبيحة في ذاتها ولا عادلة في ذاتها و لا ظالمة في ذاتها وهذا ما جعلهم ينتهون إلى تعليق الحكم وهو ما يسمى بالإبوخي،
على غرار القورينائية والأبيقورية يسعى الشكاك وراء اللذة لهذا فهم لا ينفعلون بشيء و لا يشغلون أنفسهم بأي موضوع كان، فنجدهم يقولون "نحن لا نبحث عن شيء ولا نهرب من شيء لأن ما بنا بنا و ما يحدث يحدث بالضرورة فلا نستطيع تجنبه و جعلوا جميعا من الشك الخير الأقصى لأن الطمأنينة تتبعه كما تتبع ظلها".

 امتزاج الفلسفة بالدين

تميزت هذه المرحلة بظهور الأديان السماوية، فتميز الفكر في هذه المرحلة بامتزاج فلسفة اليونان بالأديان السماوية المنتشرة في الشرق الأوسط عندئذ (اليهودية والمسيحية) ، وقد حاولت العديد من التيارات الفكرية الجديدة والمدارس الفلسفية الكبرى أن تشق طريقها إلى النور و أن تصب في المجرى العريض للحضارة الجديدة، فكان  هذا العصر هو عصر التداخل والتنافذ بين حضارة الإغريق و حضارة الشرق والأديان الجديدة، حيث احتل يهود الإسكندرية مكانة مرموقة في بادئ الأمر، ثم كان دور المسيحية، وأصبحنا أمام مزيج من مختلف النظريات انبثق عنه عدة اتجاهات تلفيقية أبرزها الأفلاطونية المحدثة.

الأفلاطونية المحدثة  (أفلوطين نموذج):

ظهرت الأفلاطونية المحدثة في الإسكندرية، ملتقى طرق الشرق والغرب، فيها وجدت مؤثرات دينية فارسية وبابلية، وطائفة يهودية و فرق مسيحية بالإضافة إلى خلفية عامة من الحضارة الهلنستية يقال أن مؤسسها هو أمونيوس ساكاس و لا يعرف عنه إلا القليل لكن أهم تلاميذه هو أفلوطين(204-270 ب م) ويعد من أعظم الأفلاطونيين الجدد.
تمتاز فلسفة أفلوطين بعمق الشعور الصوفي و المثالية الأفلاطونية و وحدة الوجود الرواقية ، فيرى أن المعرفة تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله  دون المرور بالعالم المحسوس. و الإحساس لا قيمة له والمعرفة العقلية هي الأخرى لا قيمة لها ، إنما كل القيمة للتجربة الصوفية التي ترفع التعارض بين الذات والموضوع .
تعد نظرية الفيض من أهم نظرياته، وترتبط ارتباطا وثيقا بمبدإ الوجود وعلته وهو الواحد أو الأول الذي يتسم بالبساطة والكمال، وهذا الكمال هو الأصل في الفيض، غير أن هذا الفيض لا يُنقص شيئا من ذلك الأول بل يظل ثابتا. فالفيض يحدث كما يصدر النور عن الشمس دون أن يتغير جوهر الشمس، فالوجود بالقياس إلى الأول أو الواحد بمثابة شعاع الشمس من الشمس. والكائن الكامل لا يمكن أن يحبس خيره في ذاته. وأول شيء انبثق عن الأول هو العقل ويقال له الأقنوم الثاني وهو أقل من الأول كمالا لأن الإثنينية تدخل فيه لأنه مادام عقلا فذلك يستلزم معقولا أي موضوعا له وهو يعقل الأول و يتأمله، وهذا الثاني هو عقل و وجود في نفس الآن ، و يضع أفلوطين العقل في مثابة الصانع لأنه حين يفكر ينتج معقولات، وهو يجتهد قدر الإمكان ليبقى بالقرب من مصدره، فيظل في التفات دائم ليتأمله، وهكذا يفيض عن العقل الثاني أقنوم ثالث هو النفس التي تكون صورة للأقنوم الثاني، وهي آخر الموجودات في العالم المعقول أقلها كمالا لأن الكثرة فيها زادت ولأنها البعد عن الأول. ومن هده النفس الكلية فاضت فيوضات كثيرة هي نفوس الكواكب و نفوس البشر و سائر الموجودات في العالم المحسوس .

خـــــــــاتــــمة:
كانت هذه بعض أهم اتجاهات الفلسفة اليونانية التي لاقت إقبالا كبيرا في مختلف مناحي العالم و امتزجت بمختلف العقائد والديانات، ولن يقف الأمر عند حدود المسيحية بل ستتعداها إلى الديانة الإسلامية التي ستضيف عليها هي الأخرى لمستها الخاصة لترتدي الفلسفة ثوبا جديدا في العصور الوسطى، و رغم أن الثوب يتغير بتغير المكان والزمان إلا أن الروح تبقى يونانية خالصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2012 © www.th3philo.comمدونة عالم الفلسفة

سياسة الخصوصية - Privacy Policy