المذهب التجريبي

أهم المدارس و المذاهب في الفلسفة الحديثة

بيكون:

قد لاحظ بيكون أن العقلية الإنسانية قد ترسخ فيها على مر العصور من الأوهام والخرافات والتقاليد الفاسدة ما بعد بها عن جوهرها الصافى ومعدنها الأصيل، ونحن فى تصوره معرضون للوقوع فى الخطأ وهو يجمل هذه الأخطاء أو الأوهام التى تراكمت على العقل الإنسانى فى أربع:-

1-
أوهام الجنس Race :
إنها ظاهرة بشرية وداء عام مشترك بين بنى الإنسان، أى خاصة بالجنس أو النوع الإنسانى كله ومتأصلة فى تركيب العقل الإنسانى، فتكون كالمرآة الزائفة التى تفسد الأشكال والصور، فالعقل لا يقبل إلا ما يوافق غروره ولا يلتفت إلى التجارب التى لا ترضى هواه، وهكذا يكون تفسيرنا للخرافات كالسحر والأحلام والتنجيم، تلك رذيلة جماعية بسبب تحكم أمانينا فى إتجاه تفكيرنا.

2-
أوهام الكهف Cave:
وهى نقاط الضعف البشرية فى كل شخص، وهذه لا حصر لها ولا عدد ويقرر بيكون أن ما يحيط بكل فرد من ظروف وملابسات الحياة ومقومات شخصية خاصة كالمستوى الثقافى وطبيعة المهنة والبيئة الإجتماعية، كل هذا يحصر عقلية الفرد فى إطار معين من التفكير ويفرض عليه نوعاً من العزلة كأنه فى واد بعيد أو كهف، وقد أشار أفلاطون إلى هذا النوع من الوهم فى أسطورة الكهف، فكل فيلسوف سجين كهفه وهو لا يفكر إلا طبقاً لمزاجه الخاص.

3-
أوهام السوق Market - Place:
وهى الأخطار الناجمة عن ميل الذهن إلى الإنبهار بالألفاظ وهو خطأ يتفشى فى الفلسفة بوجه خاص، وقد نشأ نتيجة لغة التخاطب بين الجماعات المختلفة، يلتقى الناس فى المقاهى والأندية العامة والأسواق التجارية وغيرها من مواطن الإجتماع فيتحادثون فى مختلف الشئون بلغة مشتركة بعيدة عن المنطق، وفى ظل هذه اللقاءات تفقد الألفاظ دلالتها الحقيقية وتعجز اللغة عن تحقيق وظيفتها التى هى التعبير الصادق عما يستقر فى الذهن.

4-
أوهام المسرح Theatre:
وهى الأخطاء التى تنشأ عن المذاهب والمدارس الفكرية أو التى تنشأ نتيجة للتأثر بالقيادات أو الأشخاص ذات التأثير العميق على بعض الأفراد، وهنا يقصد بيكون أرسطو بوجه خاص، فيفتن الناس فى كل زمان بمشاهير الرجال ويتلقون أرائهم بالتسليم والقبول دون أن يتطرق إلى أذهانهم الشك فى صحة هذه الأراء، مثال ذلك ما حدث لمعاصر بيكون ( جاليليو ) فقد قرر هذا العالم أنه لو قذف من مكان عال بحجرين أحدهما يزن رطل والأخر عشرة أرطال، فإن كلاهما يصل فى نفس الوقت، وقد أجرى جاليليو هذه التجربة على ملأ من أساتذة الجامعة، ورغم نجاحها وصدقها واقعياً إلا أن المشاهدين كذبوا أعينهم وذلك لأن أرسطو قال بعكس ذلك.

 جـــون لـــوك:

جون لوك فيلسوف تجريبى إنجليزى، وُلد سنة 1632 وتُوفى سنة 1704، وكانت هذه الفترة من أكثر عصور الإضطراب والفوضى التى شهدتها إنجلترا فى تاريخها. تعلم لوك فى مدرسة وستنمنستر ثم فى جامعة أكسفورد بكلية كنيسة المسيح. وكانت دراسته فيها تؤهله للعمل فى السلك الدينى، لكنه آثر دراسة الطب والعلوم التجريبية،، وفى سنة 1675 أكمل دراسته فى الطب وحصل على البكالوريوس. وقد طاف لوك بالعديد من الدول الأوروبية بحكم منصبه التجارى، فزار جنوب فرنسا وباريس بين عامى 1675 و1679، وتعرف هناك على الاتجاهات الفلسفية الأوروبية وخاصة فلسفة ديكارت وقرأ أهم مؤلفاته، وفى سنة 1683 زار هولندا وأقام بأمسترادم ثم روتردام سنة 1687( 1). وآخر المناصب التى تقلدها لوك كان مندوب الاستئناف، وهو منصب قضائى تأهل له بحكم منصبه التجارى السابق ومؤلفاته السياسية التى جذبت الانتباه؛ إذ تغطى مؤلفاته الفلسفة: «مقال فى الفهم البشرى» (1690)، «رسالتان عن الحكومة المدنية» (1689)، «أفكار فى التربية» (1693)، «مقال فى التسامح» (1689 - 1692). كما أهلته دراسته للطب والعلوم التجريبية لأن يكون صاحب مذهب تجريبى فى الفلسفة.

ينقسم كتاب المقال إلى أربعة أجزاء: الأول عن الأفكار الفطرية، والثانى عن الأفكار، والثالث عن الكلمات، والرابع عن المعرفة. فى الجزء الأول ينتقد لوك الرأى القائل بالأفكار الفطرية بناء على أن الخبرات البشرية متعددة، وأن ما هو فطرى بالنسبة للبعض ليس كذلك بالنسبة للبعض الآخر، وأن أجناساً بشرية مختلفة تعتنق أفكاراً مختلفة وتعتقد فى أنها فطرية، وأن البشرية كلها ليست مجتمعة على القول بأفكار فطرية واحدة. هناك شعوب لا تعتقد فى وجود هذه الأفكار فى الأصل، وهذا دليل على أنه ليس هناك إجماع بشرى عام على أفكار فطرية واحدة، إذ لو كانت هذه الأفكار الفطرية موجودة لكانت كل البشرية تعتقد فيها.
لا ينشغل لوك بفحص الذهن البشرى ذاته من حيث تركيبه العضوى أو من حيث العمليات العقلية التى يقوم بها، بل ينطلق مباشرة نحو فحص عناصر المعرفة فى الذهن البشرى من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات. وهو يذهب إلى أن لكل الأفكار أصلها فى الحواس باعتبارها المصدر الأول لتلقى الانطباعات والإدراكات. والأفكار عنده هى ما يشكل كل المعرفة الإنسانية، ولذلك ينطلق نحو البحث فى «كيفية حضورها للذهن» ولا يجد سبيلاً تأتى به الأفكار إلى الذهن البشرى
إلا عبر الإدراكات التى مصدرها الحواس. ولأن لوك قد رفض نظرية الأفكار الفطرية فقد ذهب إلى أن كل أفكارنا ترجع إلى الخبرة التجريبية. وعلى الرغم من ذلك فقد تمسك بمعنى واحد فقط للفطرية، فليست الأفكار هى الفطرية عنده بل ملكات الذهن من تذكر وتخيل ودمج بين الأفكار وبعضها، وكذلك الرغبة والإرادة.

نقد نظرية الأفكار الفطرية :

لا يستقبل الذهن البشرى إلا الإحساسات والإدراكات الحسية والأفكار، أما مفاهيم العلاقة والسببية والجوهر والأعراض والأحوال
فلا يستقبلها الذهن من الخبرة بل يتوصل إليها عن طريق التركيب والدمج بين ما تلقاه من مدركات. وبينما يكون استقبال الذهن للمدركات مجرد تلقٍ سلبى لها، فإن العلاقة والسببية والجوهر والأعراض تعبر عن الدور الفاعل للذهن. الحواس سلبية والذهن إيجابى، الحواس متلقية ومستقبلة والذهن فاعل ونشط. وعلى هذا تكون كل المفاهيم العقلية معبرة عن نشاط الذهن الإنسانى فى التركيب بين المدركات، وتكون كل علاقة منها هى الطريقة الخاصة التى ترتبط بها المدركات فى العقل. فالسببية مثلاً هى ربط الذهن بين حادثة وأخرى تكون الأولى سبباً للثانية، والجوهر هو علاقة بين الصفات وحاملها الذى هو الجسم المادى، وتكون علاقة الجوهر والعرض هى ربط الذهن بين صفات أولية مثل الامتداد والصلابة وصفات ثانوية مثل اللون والرائحة والطعم.
وعلى هذا تتحدد فاعلية الذهن البشرى بما يستقبله من إدراكات، أما هذا الذهن نفسه وبدون مدركات يتلقاها من الحواس فهو مثل الصفحة البيضاء "tabula rasa" الخالية من أى تحديد أو علامات مسبقة موروثة أو فطرية وتأتى الخبرة التجريبية لتكتب عليها ما تشاء. لكن يجب أن ننتبه إلى أن استخدام لوك لتعبير الصفحة البيضاء غير دقيق ولا يتفق مع نظريته فى المعرفة.
لقد ذهب لوك إلى أن الذهن البشرى صفحة بيضاء كى يؤكد على أنه يدخل فى التجربة وهو غير محمل بأى أفكار مسبقة أو فطرية وأن كل ما فى هذا الذهن مصدره التجربة والخبرة التجريبية، لكن هذا التعبير غير صحيح إذا جعلنا نعتقد أن الذهن مجرد متلق سلبى للإدراكات، ذلك لأنه كما رأينا فاعل ونشط، يركب ويدمج بين الإدراكات ليقيم بينها علاقات وكذلك فإن أفعال الذهن هى مصدر لأفكار جديدة غير موجودة فى التجربة. فإذا بحثنا فى مفهوم السببية أو مفهوم القوام أو الجوهر والعرض فلن نجدها حاضرة جاهزة فى التجربة، بل هى نتاج لنشاط الذهن فى التركيب والدمج بين الإدراكات على نحو معين. ليس الذهن صفحة بيضاء لأنه هو نفسه يعد مصدراً لمفاهيم غير موجودة فى التجربة. ولذلك ليست تلك الصفحة بيضاء تماماً، إذ نجد فيها مفاهيم مكتوبة عليها غير موجودة فى التجربة، والذهن نفسه مصدرها، لكن وفى نفس الوقت يذهب لوك إلى أن المفاهيم العقلية المجردة لم تكن لتوجد فى الذهن لولا احتكاكه بالتجربة، إذ لو لم استقبل الذهن البشرى أشياء تكون سبباً لأشياء أخرى،
أو أشياء تكون متغيرة مثل اللون بالنظر إلى الثابت وهو الجسم الممتد لما توصل إلى مفاهيم مثل السببية والجوهر والأعراض.

هيــــوم:

تنطلق فلسفة هيوم من مجموعة من المنطلقات، فبالنسبة لهيوم، المعارف تقوم على أساس حسي بحت، لأن الحس هوالمجال الوحيد للمعرفة، والمادة هي المصدر له. كما ذهب إلى أن الذاتية هي مقابل الواقعية والموضوعية، وأن معتقدات الإنسان وآراءه عن العالم الخارجي، إنما هي من وحي خياله ومن خلق أوهامه، وأن جدلية الخير والشر لا تكمن إلا في اللذة والألم، فما يحقق السعادة للإنسان فهو خير، وما يسبب له الألم فهو شر. بنى هيوم نسقه الفلسفي هذا متأثراً بتجريبيين أمثال جون لوك، وجورج بركلي، وبكتاب فرنسيين، وبمفكرين إنكليز، وأسكوتلنديين مثل إسحاق نيوتن وساميل كلارك وفرانسس هتشون وأدم سميث وجوزف بتلر، كما بلور معظم أطروحاته في المعرفة والأخلاق والميتافيزيقا والسياسة مستفيداً من المناخ الفكري والسياسي الذي ساد في عصره.
يرى هيوم أن للمعرفة مصدرين هما الإحساس والأفكار، وكما يقول: "إن الانطباعات تطبع أولا في الحواس أو عليها، كي تجعلها تدرك الحرارة أو البرودة، العطش أو الجوع، اللذة أو الألم، ومن هذه الانطباعات تنقل صورة منها عن طريق العقل، حيث تبقى بداخله بعد زوال أو توقف الانطباع وهذا ما ندعوه بالفكرة".


غادر هيوم الحياة تاركاً وراءه فلسفة أعاد ترتيب أوراق الفكر الأروبي، فلقد أثرت أفكاره على كانط في مشروعه حول نقد العقل، وعلى الرغم من كثرة الانتقادات التي تعرضت لها فلسفة هيوم، منذ ظهورها بدءاً من القرن الثامن عشر وإلى القرن العشرين، فلقد كان لهذا الفيلسوف تأثير قوي على كل الاتجاهات الفلسفية من بعده.

سنأتي على ذكر فلسفة كانط التركيبة النقدية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2012 © www.th3philo.comمدونة عالم الفلسفة

سياسة الخصوصية - Privacy Policy