المذهب العقلي


أهم المدارس و المذاهب في الفلسفة الحديثة


ديكارت :

يُعرف ديكارت على أنه «أبو الفلسفة الحديثة»، وذلك لأن البرنامج الفلسفي الذي وضعه لنفسه والمنهج الذي اتبعه في تحقيق هذا البرنامج قد شكل قطيعة مع فلسفات العصور الوسطى، وأحدث تأثيراً بالغاً في الفلاسفة المحدثين اللاحقين.
وعلى الرغم من أن ديكارت يهدف في «التأملات» إلى إثبات وجود الله وخلود النفس، إلا أن ذلك لم يشكل كل أهدافه، إذ كانت أوسع من ذلك بكثير. اعتقد ديكارت منذ تأليفه لكتاب «مقال في المنهج» أن المعرفة الحقة لا يمكن تأسيسها إلا بالأفكار الواضحة المتمايزة، ولا يمكن الوصول إلى الوضوح والتمايز إلا إذا تخلى المفكر عن كل الأفكار المسبقة، ذلك لأن كل ما يرثه الإنسان من أفكار عن طريق أسلافه أو محيطه الاجتماعي
لا يتوافر فيه الوضوح والتمايز، بل غالباً ما يكون غامضاً بسبب عدم خضوعه لمحاكمة العقل. ولذلك يبدأ ديكارت تأسيسه للمعرفة الحقة بشك منهجي يستطيع به فحص الأفكار المسبقة والوقوف على بداية أولى واضحة بذاتها ويقينية عقلياً تكون ثابتة للمعرفة. وهكذا يمارس ديكارت في التأمل الأول شكاً منهجياً، وهو منهجي لأنه لا ينتمي إلى رفض كل المعارف أو التوصل إلى استحالة وجود أساس ثابت لليقين بل إلى التوصل إلى يقين أول يؤسس عليه الصدق في المعرفة. والملاحظ أن اليقين الأول الذي يتوصل إليه ديكارت بعد الشك هو وجود الذات المفكرة
أو الأنا أفكر، وذلك انطلاقاً من الشك نفسه. إذ يذهب إلى أنه ما دام يشك فهو يفكر، وطالما يفكر فهو موجود: «أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود».
إن ديكارت هو أب الفلسفة الحديثة وزعيم للنزعة العقلانية في القرن السابع عشر. وهو يرى أن « العقل أعدل قسمة بين الناس » وأنهم يختلفون فقط في طريقة استخدامه، ولذلك فإن بإمكانهم جميعا أن يصلوا إلى الحقيقة إذا هم انطلقوا بتفكيرهم من مبادئ سليمة، وأن يسيروا باستنتاجاتهم في خطوات منهجية مضبوطة ومنظمة.
لقد كانت الرياضيات هي العلم الوحيد الذي نال إعجاب وتقدير ديكارت نظرا لما تتمتع به حقائقه من بداهة وبساطة ويقين. ولما كان الفكر الرياضي إنما يقوم في عملياته على مبدأين رئيسيين هما الحدس والاستنباط، فقد قرر ديكارت أن يقيم بناءه الفلسفي على أساسهما.
فالحدس هو « هو الفكرة السليمة التي تقوم في ذهن خالص منتبه، وتصدر عن نور العقل وحده »؛ أي أنه الرؤية العقلية المباشرة التي تنكشف لنا بواسطتها حقائق يقينية مثل أنا موجود، أو الشيئان المساويان لثالث متساويان. أما الاستنباط فهو العملية التي نستنتج بها من الحقائق السابقة كل ما يمكن استنتاجه من أفكار تلزم عنها بالضرورة.
هكذا فالحقيقة عند ديكارت توجد في العقل، ومعيار صحتها هي بداهتها ووضوحها؛ فكل فكرة بديهية ومتميزة في الذهن فهي فكرة حقيقية ما دامت موضوع إدراك حدس عقلي مباشر.
وقد وضع ديكارت قواعد منهجية تمكن العقل من إدراك الحقيقة وتجنب الخطأ، وهي قواعد مستمدة من الرياضيات:

1-قاعدة البداهة:
تنص على ضرورة التحرر من الأفكار المسبقة، وتجنب التسرع في إصدار الأحكام وتصديقها. فلا نقبل من الأفكار إلا ما ينكشف لنا بالبداهة صحته.

2- قاعدة التقسيم:
وهي أن أقسم كل مشكلة تعترض تفكيرنا –ما وسعنا التقسيم- ونرجع بها إلى أبسط الأجزاء التي تتكون منها حتى نحلها على أحسن وجه.

3- قاعدة التركيب:
وهي أن نعود فنركب أفكارنا ونرتبها بادئين بأبسط الأمور وأسهلها، متدرجين في المعرفة إلى أكثرها تعقيدا وصعوبة.

4- قاعدة المراجعة:
وتتمثل في أن نقوم في آخر هذه العملية بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة، لنتأكد من أننا لم نغفل شيئا.

لقد اعتقد ديكارت انه بإمكان تطبيق هذه القواعد النابعة أصلا من الرياضيات على الموضوعات العامة للتفكير الفلسفي. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل معكم: 
إلى أي حد بإمكان المنهج الديكارتي المرتكز على هذه القواعد أن يحقق نجاحات حينما نختبره في معالجة القضايا الفلسفية ؟

سبينوزا:

نزولاً عند رغبة أصدقائه بالإدلاء برأيه في بعض مسائل فلسفة ديكارت ألف كتابه «مبادئ فلسفة رينيه ديكارت».
كانت الغاية التي كان يسعى إليها اسبينوزا من وراء تفلسفه الكشف عن حياة الإنسان ومكانه في العالم، وما يستتبع ذلك من كشف طبيعة العالم. لكن اسبينوزا وجد أن تحقيق ذلك يحتاج إلى تحصيل معرفة صحيحة عن الإنسان والعالم، وهذا لا يمكن أن يحدث من دون ذهن يتمتع بالفهم الصحيح الذي يجنبه الخطأ.
وهكذا شعر اسبينوزا، منذ بدء حياته الفكرية بضرورة المنهج هادياً له في تحقيق غايته. ولم يكن عليه أن يبحث طويلاً، فقد وجده عند ديكارت، ولكنه لم يأخذه بأكمله بل حذف مقدمته في الشك، واكتفى منه بالأفكار الواضحة، وأخذ يطبقه في كل مجال، حتى تلك المجالات التي استثناها ديكارت.
ويمكن إعطاء لمحة موجزة عن فلسفته، من خلال ثلاثة كتب تعد رئيسة فيها، وهي: «رسالة في إصلاح العقل» و«الأخلاق»، و«رسالة في اللاهوت والسياسة».
أما في رسالة إصلاح العقل، فيرى اسبينوزا أن للمعرفة درجات ليست كلها على مستوى واحد من اليقين. ففي أدنى الدرجات توجد معرفة استقرائية، يحصلها الفكر من إدراك الجزئيات بطريق الحواس، وهي معرفة مهلهلة لا ترقى إلى اليقين. وتليها في درجة أعلى معرفة استنتاجية تستخلص حالة جزئية من حالة كلية، وهي وإن كانت يقينية، غير أنها لا ترابط بين أجزائها. ثم تليها في أعلى الدرجات معرفة عقلية حدسية، تدرك ماهية الشيء، أو علته القريبة إدراكاً كلياً خاطفاً، وتدرك معها كل ما يترتب عليها، ولهذا كانت يقينية، لأن موضوعاتها أفكار واضحة ومحددة. وقد وجد أن هذا النوع من المعرفة هو الذي عليه أن يأخذ به في بناء صرح فلسفته.
وأما في كتاب الأخلاق، فيتطرق اسبينوزا إلى ثلاثة موضوعات يعتقد أنها مترابطة  ترابطاً ضرورياً وهي: الميتافيزيقاوالنفس والأخلاق. فهو يبدأ الكلام على الجوهر ويرى أنه واحد، وأنه يبدو طبيعة طابعة في الله، وطبيعة مطبوعة في العالم؛ فالله والعالم واحد، ثم ينتقل إلى الكلام على الإنسان؛ ويرى أنه حال من أحوال الجوهر؛ فالإنسان، بما هو جسم، حال من أحوا ل  الامتداد؛ وبما هو نفس، حال من أحوال الفكر. ويدرسه في انفعالاته وإرادته. ويرى أنه خاضع للضرورة السببية. فلا هو يضع غايات أفعاله، ولا هو حر في تنفيذها. فالحرية التي يشعر بها خداع؛ لأنه لو وعى حقيقته لأدرك أنه محكوم بضرورة كلية. وهذا يعني، أن أخلاقه أخلاق ضرورة، وأنها تابعة للضرورة السارية في أجزاء العالم كلها؛ وأن حكمته تتطلب منه أن يراعي هذه الضرورة، التي فيها خلاصه في نهاية المطاف.

وأما الرسالة في اللاهوت والسياسة، ففيها مزيج من نقد التوراة نقداً فلسفياً وفي النظرية السياسية، وفيها يقوم اسبينوزا بثورة في التفكير الديني والسياسي، أراد بها أن يدخل نور العقل إلى هذين المجالين، وأن يضع حداً يفصل به البدع الإنسانية عن التعاليم الإلهية: فقد أراد ـ وفقاً لقاعدة ديكارت ـ ألا يقبل فيهما شيئاً على أنه حق ما لم يكن كذلك.

سنأتي في المقال التالي على ذكر المذهب التجريبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2012 © www.th3philo.comمدونة عالم الفلسفة

سياسة الخصوصية - Privacy Policy