الثورة الكوبرنيكية لدى كانط

لقد وسع كانط من دائرة فلسفته النقدية، فذهب إلى أنها تنصرف إلى أسئلة ثلاثة:

 ما الذي يمكنني أن أعرفه ؟ 

وما الذي ينبغي لي أن أعمله ؟

 وما الذي أستطيع أن آمله؟

وواضح أن السؤال الأول يهتم بمشكلة المعرفة والتي خصص لها كانط العقل النظري، بينما يتعلق السؤال الثاني بالمشكلة الخلقية التي خصص لها كانط العقل العملي، في حين يهتم السؤال الثالث بالمشكلة الدينية التي تخص العقل النظري والعملي معا.

وحينما حدد كانط هذه الأسئلة لم يكن حينها قد اكتشف الملكة الثالثة من ملكات الذات الإنسانية، ألا وهي ملكة الوجدان أو الحكم الجمالي التي ستهتم بالمشكلة الجمالية، والتي سيتناولها كانط بالتفصيل في كتابه النقدي الثالث: نقد ملكة الحكم .

أما فيما يخص الثورة الكوبرنيكية التي أحدثها كانط، فالمقصود بها أن كانط قام في مجال المعرفة الفلسفية بعمل شبيه بذلك الذي قام به كوبرنيك في مجال علم الفلك؛ فمن المعروف أن كوبرنيك قال بدوران الأرض بعدما كان العلم السابق يقول بثباتها، فلم تعد إذن الأرض هي المركز الذي تدور في فلكه الكواكب الأخرى بل هي مجرد كوكب صغير يدور حول نفسه وحول الشمس. هكذا فقد قلبت الآية إذا وأصبح الدوران معكوسا، وهذا شبيها بما قام به كان حول علاقة العقل بالواقع؛ فقد كان يعتقد في السابق أن العقل يدور في فلك الواقع سواء أكان هذا الواقع محسوسا أو مفارقا، إلى أن جاء كانط فأكد على أن الواقع هو الذي يدور في فلك العقل وليس العكس. بمعنى أن الحقيقة لا توجد جاهزة في الواقع بل إن العقل هو الذي يبنيها انطلاقا من المعطيات الواقعية الحسية. فلم يعد العقل مع كانط يتأمل الحقيقة كما توجد جاهزة في عالم عقلي مفارق هو عالم المثل كما هو الشأن عند أفلاطون، كما أن كانط لم يؤمن بوجود أفكار فطرية في العقل كما اعتقد ديكارت وأمثاله. بالإضافة طبعا إلى رفضه للموقف التجريبي الذي يقدم تصورا سلبيا للعقل ويعتبره صفحة بيضاء تتلقى المعرفة الجاهزة من الخارج.

لم يقبل كانط كل هذا وجاء بتصور معروف بموجبه يقر بأن العقل يحتوي فقط على صور أو مبادئ قبلية بواسطتها يعمل العقل على تحويل وتنظيم المعطيات التجريبية لإنتاج معرفة كلية وضرورية.

إن الواقع أعمى وغامض بدون العقل، فهو يدور في فلك هذا الأخير وليس العكس، وهذا هو معنى الحديث عن ثورة كوبرنيكية أحدثها كانط في مجال المعرفة الفلسفية، على غرار الثورة التي أحدثها كوبرنيك في مجال علم الفلك.