نيتشه و الفن



يحتل الفن في فلسفة نيتشه مكانة الصدارة، ففلسفته تستدعي الفن بشكل قوي إلى الحد الذي يجعله يقول "وفي هذا الكتاب ذاته تتردد عبارة صعبة بمقتضاها لا يجد العالم تبريره سوى كظاهرة فنية أو جمالية" (ص: 16 ميلاد المأساة). كما يضيف قائلا في مكان آخر "لأن كل حياة تقوم على المظهر والفن والوهم وزاوية النظر والمنظارية والخطأ" (ص17، ميلاد المأساة) فالفن عنده هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز.
*       فما هو الحد الذي يعطيه للفن؟

إن الفن صنع للمظاهر (Apparences). والمظهر عند
ليس تمثيلا للحياة، بل هو الحياة. المظهر هو الحقيقة لأنها لا يمكن أن تقوم سوى كمظهر. ليس المظهر زيفا أو وهما أو ظلا للحقيقة كما يزعم أفلاطون الذي أقصى الشعراء من جمهوريته. من هذا المنظور قام نيتشه بقلب الأفلاطونية، معيدا الاعتبار للحسي والشهوي (le Sensible, le Sensuel) بعدما تم ابتلاعه من طرف المافوق حسي (le Supra-sensible).
        فهو لا ينفك يتحدث عن الفيلسوف-الفنان في مقابل الفيلسوف النظري.
        إن الفن يتعدى كونه مجرد نشاط خاص بالفنان، ليتحول على يديه إلى منظار للحياة.
        يتبنى نيتشه مفهوما للفن يخرج من حدود الدائرة الجمالية، ويتحول إلى نشاط ميتافيزيقي أكثر منه نشاطا خاصا بالفنان وحده، فإذا أمكن تجاوز الميتافيزيقا فلا يكون ذلك سوى بواسطة الفن الذي يصوغ ميتافيزيقا جديدة هي إثبات للحياة، وتبجيل لها، واحتفال بها عوض الميتافيزيقا القديمة التي قامت على نفيها لصالح ما يتجاوزها أي لصالح العدم وإرادة العدم أي إرادة إنكار ونفي الحياة.
        ها نحن نرى أن الفن مشروع لمجاوزة الميتافيزيقا لأنه هو نفسه يحل محلها كنشاط ميتافيزيقي يقوم بالقضاء على النزعة العدمية (Nihilisme) التي طالما شكلت خلفية للميتافيزيقا، وبذلك يعتبر الفن مفتاحا لاستراتيجية نيتشه الفلسفية الرامية للقضاء على العدمية. في المصطلح النيتشوي توجد عدة أسماء لمسمى واحد، وعدة محمولات لنفس الموضوع: سقراطية أفلاطونية، مسيحية، ميتافيزيقا، حداثة، فكلها تشير إلى النزعة العدمية وإلى إرادة نفي الحياة.
تقوم استراتيجية نيتشه على آلية القلب (Renversement) التي تعيد الاعتبار إلى ما تم نفيه: الحياة. فالغاية من قلب الأفلاطونية هي العودة إلى "المنسي": إلى الحسي والشهوي، إنه تبجيل لإرادة النفي، في المصطلح النيتشوي، لا تحيل الأفلاطونية والسقراطية والمسيحية إلى اتجاهات فلسفية أو إلى مشارب عقائدية، إنها كلها تشكلات لإرادة النفي.
        قلنا سابقا إن الفن مفتاح لاستراتيجية نيتشه الرامية إلى قلب العدمية، والانتقال من إرادة النفي إلى إرادة الإثبات (V/d’affirmation): إثبات مفارقات الحياة وتناقضاتها، وتحويلها إلى ظاهرة فنية وجمالية خلقية بأن تعاش ويعمل في إطار هذه الاستراتيجية على ابتداع ونحت كوكبة من المصطلحات موجهة للقضاء على إرادة النفي: النشوة، المرح، الرقص، الضحك. "أيها الناس الممتازون تعلموا إذن الضحك". الفن يجعل الحياة ممكنة بل وجديرة بأن تعاش، إنه خلاص (Salut) ولكن ليس بالمعنى المسيحي طالما أنه ليس هروبا من رعب الوجود وعبثه: خلاص ليس بمعنى التعلق بحقيقة ما فوق الوجود الحسي وإنما بمعنى تحويل رعب الوجود وعبثه إلى مظاهر فنية يكون بموجبها هذا الرعب جميلا، وهذا العبث سخرية وضحكا، وهذا الألم انتشاء، (Ivresse).
        إن نظرية نيتشه في الفن تتعارض مطلقا مع وجهة النظر الرومانسية (Romantisme) فهو لا يجد أساسا للفن في ذاتة الفنان وهو ما درجنا على تسميته بالإبداع والخلق إن استبعاد الذاتية ضرورة تفترضها مجاوزة الميتافيزيقا، لأن الميتافيزيقا، قائمة على مبدإ الذاتية. من يبدع في الفن ليس الفنان، بل هو الحياة نفسها، ولكن ليس الحياة المنحطة المتقهقرة، بل الحياة القوية وجوهرها إرادة القوة التي تخترق الفنان، فيتلبس بلبوسها، وينطق بلسانها. كلما نأي الفنان عن ذاتيته، وذاب في فوران الحياة واندفاع إرادة القوة صار أقرب إلى المفهوم الحقيقي للفن، فالرومانسية قد تتطلب من الفنان تقمص الطبيعة، والتغني بها، ولكنه في هذا التقمص وهذا التغني لا يفارق ذاتيته. فالفن الذي تحركه إرادة القوة هو الأقرب إلى روح المأساة (l’Esprit tratigique)، وهنا يعود نيتشه إلى المأساة الإغريفية من حيث إنها التمثيل الأسمى للفن، وكان ازدهار روح المأساة عند الإغريق قبل مجيء السقراطية التي وأدت المأساة لصالح الجدل (Dialectique)، فالجدل هو أول أعراض المرض الذي بدأ ينخر عظام الثقافة اليونانية. ومثل طبيب يقوم بتشخيص الأعراض يقابل نيتشه بين الصحة والمرض، بين القوة والانحطاط. إن الجدل في السقراطية (Socratisme) عرض وإرهاص للأمراض التي بدأت تدب في جسد الثقافة اليونانية، وتراجع لمظاهر الصحة والعافية المتجسدة في المأساة. الجدل تعالي على الحياة، وتوحيد لأضدادها، وحل لتناقضاتها، أما المأساة فإثبات لرعب الوجود، وتعميق لتناقضات الحياة، وإذكاء لمفارقاتها، الجدل نفي للحياة، ووهن لقوتها، أما المأساة فإثبات للحياة وشهويتها.
        الروح المأساوية هي ملهمة كل فن عظيم، لأنها علامة على صحة الفن دون انحطاطه إلى الدرامية والرومانسية، الروح المأساوية هي المحررة لقوى الطبيعة والمطلقة لها من عقالها. يوظف نيتشه تأويلا رمزيا للأساطير اليونانية لتقريب مفهوم الفن من القارئ بل إن هذه الرمزية تخترق فلسفة نيتشه من أقصاها إلى أقصاها. وها هو يمثل لروح المأساة بالإله ديوميزوس (Dionysos) رمز النشوة والاسراف (Ivresse, Excés)، رمز تدفق قوى الطبيعة وانفلاتها من عقالها وهو ما يغني ويغذي نبع الفن، فديونيزوس رمز لعودة الإنسان إلى أصله الطبيعي-الحيواني الذي طالما افتقده للعيش في تناغم كوني. وما مسخ الإنسان في الأسطورة اليونانية إلى كائن نصفه آدمي ونصفه حيواني وهو ما يسمى بـ(Satyre) سوى عودة لهذا التناغم الكوني المفقود، وتحرير للإنسان من ذاتيته. والفن المأساوي هو مشاركة للقوى الديونيزوسية في انطلاقها، واندماج في ركاب قوى الطبيعة المنفلتة من عقالها، أن الفن اسراف وانتشاء لا محدود.
        غير أن الديونيزوسي (le Dionysiaque) بما هو زخم ودفق للقوى اللاعقلانية ليس سوى وجه لعملة الفن، والابولوني (l’Appolonien) بما هو تنظيم لهذه القوى المندفعة في المظهر الجميل (la Belle apparence) وجهها الآخر. فالفن يتغذى من الديونيزيسي زخما وانطلاقا وإسرافا، ومن الابولوني يتغذى اعتدالا (Mesure) وانسجاما ومقدارا. إن الاله أبولون صانع المظاهر الجميلة، وبعبارة أخرى، أن الفن كما يحدده نيتشه اندماج لقوة ديونيزوس، وجمال أبولون. ولكن هذا الاندماج أبعد ما يكون عن المصالحة أو التصالح (Réconciliation) والمهادنة، إنه صراع حتى الموت. فالقوى الديونيزيسية المنفلتة من عقالها، تشكل تهديدا مستمرا لاعتدال المظهر الابولوني، إنها الفوضى التي تهدد النظام. وما جمال واعتدال المظهر الابولوني سوى تأجيل لتهديد ونفي القوة الديونيزيسية.
        هذا التقابل بين ديونيزوس وأبولون، بين الإسراف والاعتدال، بين القوة والمظهر،  بين الفوضى والنظام، هو ما يجعل ديونيزوس موسيقيا، وأبولون مصورا. فالموسيقى تناسب اندفاع ديونيزوس وانتشاءه، والتصوير يناسب اعتدال أبولون وجماله، لأن الموسيقى اندفاع، والصورة انسجام واعتدال.
        إن الموسيقى في نظر نيتشه هي الشكل التعبيري الأسمى عن روح المأساة، وبفضل ما تحتويه من ترنيم وترتيل وتنغيم (Mélodie) هي ترجمة لاندفاعات الشهوي (le Sensuel) والحسي (le sensible)، إنها تترجم ما ليس بعد كلاما وحوارا، وما ليس بعد موضوع تفكير جدلي أو تزهد أخلاقي. ولا يقصد نيتشه الموسيقى المترجمة للأفكار، فهذه لا تتعدى كونها مجرد وجه آخر للكلام والحوار وهو ما يتمثل في الغناء والأوبرالي، إن الموسيقى التي يقصدها نيتشه هنا، هي تلك التي تضعنا وجها لوجه أمام المرعب (l’Horrible) والهلامي (l’Informe).
        ومن نافل القول التأكيد على الاهتمام الذي كان يوليه نيتشه للموسيقى ودورها إما في إبراز روح المأساة لدى الإغريق، أو في إبعاد بعثها من جديد بفضل الموسيقى الألمانية الحديثة على يد بيتهوفن وفاغنز.
        إن التنغيم هو أصل ومنبع الشعر ذاته، وما الشكل المقطعي (Strophique) في الشعر سوى تنغيم، وبالتالي فإن أصل الشعر موسيقى، وأول شكل شعري عرفته الإنسانية وخاصة الإغريق هو الشعر الغنائي (lyrisme)، وهو في مجمله ترانيم وتراتيل وإنشاد، بمعنى آخر هو موسيقى. لماذا تحتل الموسيقى أهمية كبرى في فلسفة نيتشه؟ لأن الموسيقى أقدر شكل تعبيري على الجمع بين الحسي والمجرد، أما الجدل أو بالأحرى الميتافيزيقا فقد باعدت بينهما، وأقامت وجعلت بينهما هوة سحيقة. إن الموسيقى بما هي الشكل التعبيري الأكثر بدائية، جديرة بأن تعيدنا إلى "المنسي"، إلى الطبيعة، إلى الرعب، إلى ما ليس بعد موضوع تفكير.
        هكذا جعلت استراتيجية نيتشه الفلسفية من الفن قطب الرحى لأي فلسفة ممكنة حتى يبتدى لنا بأن الفلسفة مطالبة بأن تصير فنا. الفن يعيد للإدارة قوتها، ويجعلها قادرة على الإثبات وعلى الخروج من النفي، نفي ذاتها، ونفي العالم في آن واحد. الفن هو فائض الإرادة. إرادة القوة هي إرادة القوة الديونيسية وتوقها للانطلاق والرقص والإنتشاء. إنها إرادة الخلق. إرادة القوة تمثل الحياة في اندفاعاتها (pulsions) الحيوية، ولا تملك لنفسها خلاصا سوى الخلق. في الحياة تناقضات لا حل لها، لا في خلاص مسيحي، ولا في تجاوز جدلي هيجلي، إنها تعيش وتتغذى من تناقضاتها، والفن حافز لها على تعميق تناقضاتها. وهو خلق للمظاهر التي يجعلها ممكنة أن تعاش. فلا مكان للخلاص المسيحي ولا للوعي الشقي.
        إن مفهوم الألم عند نيتشه هو مستلهم من روح المأساة ولا علاقة له بالألم المسيحي. فالألم المسيحي عذاب بينما الألم المأساوي انتشاء. وحسب تأويل دولوز في كتابه (نيتشه والفلسفة)، إن الحياة لا تحل مشكلة الألم بواسطة استبطانه (Intériorisation) وبحسب دولوز هناك نوعان من الألم: الألم من فرط الحياة، والألم المدين للحياة. الألم الديونيزيسي باعث على النشوة، والألم المسيحي باعث على الفتور.
        وحده الفن خلاص، لكنه خلاص أرضي (Salut terrestre) بإثباته لقوة الحياة، ولتعدد مظاهرها وتلونها، ولقدرتها على تجاوز الوهن والفتور وهو وهن وفتور الإرادة. ولكن الملاحظ أن الفن تعرض للانحطاط بسبب قضاء الجدل السقراطي قضاء مبرما على روح المأساة وإعلائه لغريزة المعرفة على إرادة القوة. ومن مظاهر تردي الفن في المرحلة السقراطية، صعود الدراما (Le Drame) التي لا تعتبر سوى وجهه الآخر للكلام والحوار، فتوارى الترنيم والإنشاد المميز لروح المأساة. هيأت الدراما للدخول إلى مرحلة "العقلاني" الذي يعتبر الخصم اللدود "المرعب" السائد في الحياة. ودخل الفن في مرحلة انحطاط يتعين على الفن الحديث الخروج منها وبعث روح المأساة من جديد للارتقاء الفن إلى أن يكون النشاط الميتافيزيقي بامتياز.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2012 © www.th3philo.comمدونة عالم الفلسفة

سياسة الخصوصية - Privacy Policy